مما لا شك فيه أن السياسة السيبرانية أصبحت مصطلحاً يستخدم على نطاق واسع في الأوساط الأكاديمية والبحثية حيث تتناول هذه السياسة تأثير الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية على الأنشطة السياسية والعمليات الحكومية والعلاقات الدولية. ويمثل هذا المفهوم استجابة حديثة للتحديات التي تطرحها العولمة الرقمية وتأثيرها على التوازنات السياسية والاقتصادية العالمية.
فالفهم العلمي العام لمعنى “السياسة” في الفضاء السيبراني يقوم على أخذ حساب صريح لهذا الفضاء في تحليل السياسة العالمية، والأنماط الملحوظة للوصول والمشاركة السيبرانية في جميع أنحاء العالم، وكذلك الأنواع الجديدة من النزاعات والخلافات الدولية التي تنشأ من الأنشطة في العالم الافتراضي، وليس انتهاءً بالضرورات الجديدة الطارئة التي شكلها ظهور شبكة الإنترنت في تفسير نظريات العلاقات الدولية وأدواتها المنهجية.
لا شك أن السياسة السيبرانية أضحت اليوم رائجة الاستخدام لدى الأكاديميين والباحثين المهتمين بتحليل تأثير الفضاء السيبراني في العلاقات الدولية والعلوم السياسية؛ وأصبح البحث في هذا الجانب يأخذ زخما أكاديميا مهما لتطوير التخطيط الإستراتيجي والقيادة في ساحات الإنترنت والبيانات الضخمة، إضافة إلى النقاش الدائر حول تأثير التحديات الإلكترونية على الحكومات والمنظمات والمجتمعات بشكل عام.
ما تقدم يؤكد أن السياسية السيبرانية أصبحت خلال العقدين الماضيين إحدى أهم القضايا العامة العالمية، وغدت أبعد من مجرد مسألة فنية في السياسات الدولية أو قضية بحث نظرية؛ إذ بات “الطيف السيبراني” يؤثر في الديمقراطيات والدكتاتوريات والعمليات السياسية والتفاعلات بين الدولة والمجتمع والأسواق وصنع السياسات على جميع المستويات، ناهيكم عن تأثيره في مروحة واسعة ومتنوعة من القضايا السياسية على شاكلة: السيادة والانتخابات والحملات والديمقراطية والاحتجاج والقمع والحرب والسياسة الأمنية ومكافحة الإرهاب والتعاون والصراع الدولي وسياسة الهجرة والشتات والهوية والمواطنة.
وبالتالي فإن هناك أسئلة بدأت تفرض نفسها في هذا السياق من قبيل: كيف تتحكم السياسة في الفضاء السيبراني؟ وكيف يؤثر هذا الفضاء على السياسة؟ وما مدى استخدام الفضاء السيبراني للنشاط السياسي؟ وكيف تغير التكنولوجيا الرقمية السياسات الديمقراطية؟ وكيف تؤثر على السياسة والعلاقات الدولية؟ وهل أصبح الأمن السيبراني بالفعل قضية سياسية؟ وهل ستتأثر جميع نماذج الحوكمة بالفضاء السيبراني؟ وهل ستؤثر الديمقراطية الإلكترونية على نماذج الحكم الأخرى عبر الدول؟
وغيرها العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها في ظل أفق يلوح بفضل اتساع الفضاء السيبراني الذي حتّم إعادة تعريف ما هو عالمي وما هو إنساني وما هو قيمي وأخلاقي؛ فجولة المراجعات التي شهدتها العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة مع دخول البشرية الثورة الصناعية الرابعة لم تعد -في ما يبدو- كافية للتعبير عن الواقع المعاصر، وسرعان ما سيصبح علينا أن نخوض جولة جديدة من المراجعة على صعيد العلاقات الدولية بدخول البشرية عصر السيبرانية السياسية.
عوداً على بدء، لا بد للجامعات والمراكز البحثية إيلاء أهمية لموضوع السياسة السيبرانية لفهم التحولات الكبيرة على صعيد العلاقات الدولية عبر توفير إطار تحليلي للتأثيرات السيبرانية و فهم كيفية تطور الأمور في عصر الرقمنة السريعة والدور المحوري لها في تحديد توجهات العالم…فهل نحن فاعلون؟