على مدى العقدين الماضيين، أصبحت القدرات التكنولوجية أداة جديدة وهائلة لتعظيم نفوذ القوة التقليدية وإحدى عوامل مضاعفة نفوذ الدول وفاعليتها. فإضافة إلى استخدام هذه القدرات للحصول على أسرار الدول من بعضها البعض، كما هو الحال في التجسس التقليدي، فقد استخدمتها الدول أيضًا لمجموعة من الأغراض الأخرى الأكثر تهديدًا مثل سرقة الملكية الفكرية، التهديد بتعطيل المؤسسات المالية والاقتصادية والصناعات النفطية والمحطات النووية وشبكات الطاقة والبنية التحتية للاتصالات ومحاولة التدخل في العمليات الانتخابية، وتقويض وتعطيل القدرات العسكرية في زمن الحرب..إلخ.
باختصار، أصبح الفضاء السيبراني، ربما بشكل حتمي، بيئة جديدة رئيسية محاطة بالمغامرات ومحفوفة بالأخطار. من هنا، تحاول الدول التخفيف من تداعيات التكنولوجيا المتطورة على اقتصاداتها الرقمية والبنية التحتية الوطنية الهامة من خلال القيام باستثمارات كبيرة وتغذية نمو قطاع الصناعة السيبرانية المعولم ودمج القدرات المتطورة في استراتيجياتها الاستثمارية الوطنية وعقائدها وخططها، وتزيد من وتيرة أنشطتها المتعلقة بالفضاء الإلكتروني بشكل عام. وقد أدركت الدول درجة اعتماد ازدهارها الاقتصادي والتجاري ، فضلاً عن أمنها القومي وتأثيرها الجغرافي الاستراتيجي، على إدارتها للمخاطر الإلكترونية وامتلاكها للقدرات التكنولوجية المتطورة والسيطرة على التقنيات التي تدعم مستقبل الفضاء السيبراني ماديًا – مثل إنتاج الرقائق أو الشرائح الدقيقة (أشباه الموصلات) ، وتجميع الكمبيوتر ، والإنترنت عبر الهاتف المحمول (مثل 5G) والبنى السحابية والكابلات وأجهزة التوجيه وتقينات الذكاء الاصطناعي …حيث تدرك الدول في القرن الحادي والعشرين أنها لا يمكن أن تكون قوى لها مكانتها وثقلها ونفوذها إلا إذا كانت قوى رقمية.
وبالعودة إلى إنتاج الرقائق الإلكترونية أو ما تسمى أشباه الموصلات، حيث باتت عنواناً للتنافس الدولي الجديد وتتحكم في مستقبل البشرية، إمّا إيجابياً نحو التحوّل التكنولوجي، أو سلبياً نحو الاحتكار أو التعرض لأزمات التوقف عن الإنتاج؛ إذ أصبحت هذه الشرائح تشكِّل العقل المدّبر لكافة الأجهزة والآلات التكنولوجية الحديثة، والعمود الفقري للأجهزة الإلكترونية، ومن دونها لم نكن لنشاهد في يوم من الأيام، أي حاسوب أو هاتف محمول، وتكاد تدخل في صناعة كل شيء اليوم، وبجميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي وحتى الأسلحة المتطورة والصواريخ العابرة للقارات وطائرات اف 35، الأمر الذي عدّه مسؤولون أمريكيون بأن موضوع الرقائق الإلكترونية بالنسبة لواشنطن “مسألة أمن قومي”، بسببها صوّت مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية 64 صوتاً الشهر الماضي للموافقة على حزمة بقيمة 280 مليار دولار، تهدف إلى تحفيز تصنيع الشرائح الإلكترونية الأمريكية.
تخوض اليوم الصين وأمريكا سباقاً محموماً في صناعة هذه الشرائح، كما تسعى كل من الدولتين إلى مزيد من المرونة في سلسلة التوريد، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية، في الوقت نفسه تمضي الصين قدماً في خططها لبناء 31 مصنعاً جديداً للرقائق بحلول عام 2024 ، وليس من الصعوبة بمكان قراءة أبعاد الأزمة الأمريكية الصينية مؤخراً بسبب هذه الرقائق، إذا ما عرفنا أن أكبر لاعب في هذه الصناعة، هو شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصِّلات.. فجزيرة تايوان لا يوجد بها بترول ولا ثروات طبيعة، إلا أنها تشهد صراعاً لا يتوقف تشترك فيه قوى عظمى مثل الصين التي تصر على أن الجزيرة جزء من أراضيها، والولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية والتي تدعم استقلالها عن بكين وتبذل كل جهد ممكن لتثبيت ذلك، بينما السر القابع وراء كل هذا الصراع يكمن في الحقيقة وراء امتلاك تايوان أكبر وأحدث شركة على مستوى العالم وهي شركة TSMC” ” التي تستحوذ على نصيب الأسد من إنتاج الرقائق الإلكترونية المتطورة فى العالم.
المعطيات تشير إلى أن أمريكا تحتضن حوالي 7 من أكبر 10 شركات لصناعة الرقائق الإلكترونية فى العالم، ومن بين تلك الشركات أسماء كبرى مثل إنتل وكوالكوم اللتان تحققان إيرادات بالمليارات سنويا. وتنتج أمريكا أنواعا مختلفة من الرقائق لكن الأجيال الأكثر تقدماً كتلك التى تعتمد عليها أجهزة آيفون، لا تصنع إلا فى تايوان التى سبقت العالم كثيراً فى هذا المجال، خاصة مع إطلاقها الرقائق بتقنية 3 نانومتر.
عود على بدء، ترتكز المنافسة أو إن صح التعبير الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن وبكين بشكل متزايد على تطوير صناعة واحدة فقط في مكان واحد، ألا وهي صناعة الرقائق الإلكترونية في تايوان. ويتعين على أي دولة تتطلع إلى الهيمنة على المستقبل الرقمي شراء أو تصنيع هذه الرقائق فائقة السرعة وفائقة النحافة، فحرب الرقائق هذه هي الحرب الجديدة التي تخوضها صناعات الشركات المتعددة الجنسيات في العالم. حرب بدون أسلحة أو وجنود أو إراقة دماء لكن إن لزم الأمر، فستصبح كل الوسائل متاحة فيها للوصول إلى الهدف وهو حماية الأمن القومي،و يبقى السؤال إلى أي مدى سيبقى العالم أسيرا للابتزاز الأميركي الصيني في موضوع الرقائق الإلكترونية وفرض الهيمنة على مصادرها؟ ويبقى مقياس الغلبة والنجاح اليوم للأمم والدول التي تهيمن على هذا السوق وتسبق في إنتاج هذه الرقائق متناهية الصغر بإستخدام تقنية (النانو)، حيث المليمتر الواحد يساوي مليون (نانو)، والسنتيمتر يساوي عشرة ملايين (نانو)…والسؤال الأبرز هنا: أين العرب مما يجري في هذا العالم؟