أصبحت ظاهرة الفضاء السيبراني خلال السنوات الأخيرة، إحدى أهم القضايا العامة العالمية “المسيسة” بطبعها لتغدو أبعد من مجرد مسألة فنية تقنية في السياسات الدولية وإحدى المواضيع الرئيسة في أجندة السيناريوهات على مستوى المعمورة.
وللتسييس السيبراني -بشكل عام- معنيان بهذا المجال، أحدهما يشير إلى العملية والآخر إلى النتيجة، ومن حيث تسييس القضايا الفنية ثمة ثلاث مراحل من التطور يمكن الإشارة لها بدءًا من جعل القضايا التكنولوجية جزءًا لا يتجزأ من الأجندة الدولية مرورًا بتوافق الدول في الآراء حول التعاون في مجال تكنولوجيا المعلومات والشبكات الأمر الذي رفع من مستوى التعاون الفني إلى ذروة التعاون السياسي وانتهاءً من التعامل مع التكنولوجيا كقضية سياسية لأنها انعكاس رئيسي للقوة التنافسية بين الفواعل الدولية.
ثمة اتجاه يرى بأن الأمن السيبراني يستخدم على نطاق واسع كأداة سياسية ورقمنة واسعة تنشأ من الارتباط بين شبكة الاتصالات المعلوماتية والأنظمة السياسية وتلعب الأخيرة دورًا مهمًا في الأمن القومي وتُستخدم كأداة للحصول على المعلومات وكمكان لتبادل الأفراد الآراء السياسية.
المظهر الأساسي لتسييس هذا الفضاء كونه أصبح مضمون مفاوضات بين الدول وأن المنظمات الدولية ذات الصلة به بدأت تهتم بشكل تدريجي بالمشكلة السيبرانية؛ وعلى الرغم مما تطرحه التكنولوجيا السيبرانية من تحديات عالمية استثنائية، فإن المبادئ والقواعد الدولية التي تحكم مسار استخدامها ما زالت موضع تشكيك وتتطور بإيقاع بطيء. إذ أنه ورغم دعم بعض الدول الكبرى لقوانين تنظم الفضاء السيبراني( مثلا: أقرت الهيئة العامة في الأمم المتحدة قبل عدة سنوات ولأول مرة مجموعة من 11 مبدأ سيبرانيا دوليا وطوعيا غير ملزم، ومبادرة “المفوضية الدولية لاستقرار الفضاء السيبراني” التي اقترحت مبادئ لمعالجة النواقص والشوائب في الفضاء السيبراني لحماية بنية “الجوهر العام” للإنترنت من الهجمات والتهديدات وحظر التدخل بالأنظمة الانتخابية) إلا أن ما يلاحظ هو انتهاك الدول لهذه المبادىء مما يكشف حالة “سوء الفهم” السائدة تجاه كيفية عمل المبادئ ومسألة تعزيزها على المستوى العالمي، لتبدو أي فكرة لفرض قوانين أو حتى القدرة على معرفة مظاهر تجاوز تلك القوانين التي تنظم الفضاء السيبراني ، أمرا شبه مستحيل يكاد يعصى على الخيال.
كما هو معروف يتكون الفضاء السيبراني من سلسلة مترابطة بين أجهزة الكمبيوتر القادرة على تخزين واستخدام المعلومات والاتصال. وهي تتألف من أربع طبقات: الأشخاص والمعلومات والوحدات المنطقية والأجهزة المادية. من حيث الاستخدام أو الغرض، يمكن استخدام الفضاء السيبراني لمعالجة البيانات والمعلومات ومعالجتها وتطويرها ، ويمكن أن يعزز التواصل والتفاعل بين الناس والمعلومات.
اليوم ملايين الأشخاص حول العالم لديهم إمكانية الوصول إلى أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، ويتزايد عدد المستخدمين ومستوى وعمق استخدام الإنترنت كل لحظة وفي مثل هذه الظروف، يلعب الفضاء السيبراني دورًا مهمًا في توجيه الرأي العام، وخلق الأولويات والمطالب، والدبلوماسية العامة، والتجسس ، والتخريب ، والحرب والصراع ، وأي شيء يشكل فعليًا الفضاء السياسي الحقيقي.
هذا يقودنا للقول بأنه على الرغم من الدعوات العالمية التي تشدد على أن الأمن السيبراني هو بمثابة تحدي تواجهه جميع البلدان التي يجب أن تضمن سلام وأمن الفضاء السيبراني عن طريق الحوار والتعاون المشترك، إلا أن تسييس وأدلجة هذا الفضاء لن يساعد في تعزيزه، بل سيلحق ضررا بالثقة المتبادلة بين البلدان (ولنا مثالا واضحا على عدم الثقة المتبادلة بين يكين وواشنطن بهذا المجال)، وستسممان أجواء التعاون الدولي في الفضاء السيبراني.
فرغم النوايا الدولية لتنظيم الفضاء السيبراني وقوننته، إلا ان الواقع يختلف عن الطموح، إذ لا يوجد قانون للفضاء السيبراني ولا توجد هيئة مقاضاة مثل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية. لا توجد قواعد دولية تحكم أو تشرف على أخلاقيات الشبكة العنكبوتية. لا يزال المجال السيبراني أشبه بغابة، إذ إن خصائصه الأساسية، وفق الفكرة الشائعة، تجعل من فكرة فرض أي قوانين، أو حتى القدرة على معرفة مظاهر تجاوز تلك القوانين، أمرا شبه مستحيل يكاد يستعصى على الخيال. فمع الإجماع العالمي على القواعد والمبادئ المطلوبة، فإن التوافق على الحالات التي ينبغي فيها رسم الخطوط الحمر وتحديد كيفية التصرف عندما يتم تجاوزها يشكل مسألة أخرى..وهذا يبرهن بشكل أو بآخر على القول بأن ما تفتقر إليه البلدان الفردية من حيث الموارد والخبرة قد تكون قادرة على تعويضه من خلال التحالفات الدولية..واليوم نرى أن التحالف السيبراني المهيمن هو التحالف المبني على شراكة المخابرات “العيون الخمس” The Five Eyes حيث الصراع على أوجهه بين دول هذا التحالف المكون من (الولايات المتحدة ، المملكة المتحدة ، أستراليا ، كندا ، ونيوزيلندا) والكتلة الصينية الروسية وهذه هي القوى الإلكترونية الرائدة عالميا لتي تلعب قيادتها دورًا أساسيًا في تعزيز التفضيلات المعيارية للفضاء السيبراني العالمي الأمر الذي أدى إلى تزايد المنافسة للهمينى وفرض النفوذ على قواعد هذا الفضاء.. وتسييسه!