يشهد العالم اليوم تحولاً غير مسبوق بفعل الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت شركات التكنولوجيا الكبرى القوة الدافعة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية. مع نهاية عام 2024، تجاوزت القيمة السوقية لأكبر عشر شركات تكنولوجيا 20 تريليون دولار، ما يعكس هيمنة هذه الشركات على الاقتصاد العالمي ودورها في إعادة تشكيل الأسواق وخيارات المستهلكين.
في هذا السياق، أصبح الذكاء الاصطناعي أحد أبرز توجهات الاستثمار التكنولوجي، دون ظهور أي مؤشرات على تراجع زخمه. وفقًا لتقرير “جلوبال داتا” (GlobalData)، يُتوقع أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي إلى 909 مليار دولار بحلول عام 2030، مع تركيز خاص على الذكاء الاصطناعي التوليدي كأحد مجالات النمو الرئيسية. كما أشار تقرير حديث من “كرنش باس” (Crunchbase) إلى أن الاستثمار في الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي ارتفع إلى 24 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2024، وهو ما يُمثل أكثر من ضعف الاستثمار مقارنة بالربع الأول من العام نفسه.
هذه الطفرة لا تقتصر على الشركات الناشئة فقط، بل تمتد إلى قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية، حيث يُسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين التشخيص ووضع خطط العلاج، وكذلك في التصنيع، حيث يُساعد في تحسين الإنتاج وإدارة سلاسل التوريد.
إلى جانب الذكاء الاصطناعي، تُعد الحوسبة الكمومية الثورة التقنية المقبلة. تعتمد هذه التقنية على مبادئ الفيزياء الكمومية لمعالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة فائقة، ما يُمكنها من تحقيق إنجازات كبيرة في مجالات مثل تطوير الأدوية وتحسين كفاءة الطاقة. من المتوقع أن تصل قيمتها السوقية إلى 4375 مليون دولار بحلول عام 2028، لكنها تفرض تحديات كبيرة في مجال الأمن السيبراني، حيث يُمكنها فك تشفير البيانات المحمية حاليًا.
في المقابل، تشكل البيانات الضخمة العمود الفقري لهذه التحولات، حيث يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية لاتخاذ قرارات دقيقة وسريعة. مع توقعات بأن تصل قيمة سوق البيانات الضخمة إلى 400 مليار دولار بحلول عام 2030، تواجه الشركات والدول تحديات تتعلق بالخصوصية وأخلاقيات استخدام البيانات.
بالرغم من النمو السريع في مجال الذكاء الاصطناعي وازدهار الاقتصاد الرقمي، تتسع الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول النامية. تُظهر تقارير مثل “مؤشر الاستعداد لتبني الذكاء الاصطناعي” الصادر عن صندوق النقد الدولي أن دولًا مثل الولايات المتحدة، وسنغافورة، والدنمارك تتصدر التصنيفات العالمية بفضل استراتيجيات متكاملة تعتمد على أربعة محاور رئيسية: البنية التحتية الرقمية، ورأس المال البشري، وسياسات الابتكار، والتنظيم الأخلاقي.
على النقيض، لا يزال العالم العربي متأخرًا في مواكبة هذه الثورة التقنية. ورغم أن بعض الدول، خاصة الخليجية منها، بدأت بتبني استراتيجيات طموحة لتطوير الذكاء الاصطناعي ودمجه في خططها الاقتصادية والاستثمارية، إلا أن معظم الدول الأخرى تعاني من ضعف البنية التحتية التكنولوجية، وانخفاض الإنفاق على البحث العلمي، ونقص الكفاءات المؤهلة.
مع ذلك، يمتلك العالم العربي إمكانيات كبيرة إذا استغلها بالشكل الصحيح. بناء شراكات استراتيجية مع القوى التكنولوجية الكبرى، كما تفعل قطر والإمارات والسعودية، يمكن أن يُسهم في نقل المعرفة وتوطينها. بالإضافة إلى ذلك، تشجيع الابتكار والاستثمار في البنية التحتية وإنشاء مراكز بحثية مشتركة يُمكن أن يُساعد في تقليص الفجوة الرقمية.
تأسيسًا على ما سبق، فإن استمرار تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي والحوسبة الكمومية والبيانات الضخمة يزيد من الفجوة بين الدول التي تستثمر بجدية في هذه المجالات وتلك التي تكتفي بدور المتلقي. العالم العربي، رغم تحدياته البنيوية، يمتلك إمكانيات هائلة إذا استثمر في التعليم التقني، والبحث العلمي، والشراكات الدولية.
الخلاصة هنا هو أن قدرة الدول العربية على التحول إلى لاعبين رئيسيين في الاقتصاد الرقمي تعتمد على الإرادة السياسية والتزامها بخطط طموحة. فالفرصة اليوم باتت سانحة لتغيير قواعد اللعبة، لكن يبقى السؤال: هل سيتمكن العرب من تجاوز الفجوة الرقمية واستثمار هذه الحقبة لصالحها؟ الإجابة ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لمستقبل أفضل.