لقد أدخلت الصراعات السيبرانية بعدًا جديدًا وخلّفت آثارًا متباينة على صعيد العلاقات الدولية، بعد أن تجاوزت الصراعات العسكرية التقليدية التي تخاض فيها المعارك بأسلحة تقليدية، ليصبح العالم أمام معارك أخرى غير مادية تعتمد على نظم الحاسوب وشبكات الإنترنت ومخزون هائل من البيانات والمعلومات، وذلك من دون التقيد بالحدود الجغرافية.
إن تطوَّر الصراع الدولي جاء نتيجة التقدم الكبير في مجال المعلومات، وظهور الفضاء السيبراني ما جعل الدول والفواعل من غير الدول تتنافس لإدخاله في استراتيجياتها الأمنية والعسكرية وباتت الصراعات السيبرانية أحد الملامح المعقدة والمهمة في العلاقات الدولية التي تعتمد على استخدام التكنولوجيا الحديثة والهجمات السيبرانية لتحقيق أهداف سياسية، وعسكرية، واقتصادية، واستخباراتية، واختراق الأنظمة والشبكات الحيوية للدولة، وسرقة المعلومات الحساسة، والتلاعب بالبنية التحتية الرقمية. وتستهدف عدة قطاعات ويمكن أن تؤثر في القطاعات المصرفية، والنقل، والطاقة، والصحة العامة، ما يزيد من أهمية حماية هذه البنية التحتية وضمان استمراريتها لما له من أهمية في الاستقرار الدولي.
تأسيسًا على هذا القول، فإنّ فهم مميزات الصراعات السيبرانية وتأثيرها في العلاقات الدولية بات أمرًا ضروريًا لفهم التطورات الجارية في الساحة الدولية عمومًا. ففي العقود الأخيرة، شهدنا تحولًا ملموسًا في الطريقة التي تُنفَّذ فيها الصراعات وتُدار على الساحة العالمية. بدلًا من الاعتماد على القوة العسكرية التقليدية فحسب، أصبح الفضاء السيبراني يمثّل منصة حيوية للتصعيد وتحقيق المكاسب وتصفية الخلافات، إذ يمكن للدول والمنظمات الاستفادة من هذا الفضاء لشن هجمات سيبرانية تستهدف البنية التحتية والأمن السيبراني للأعداء. وتسهم التكنولوجيا في تمكين الأطراف من الوصول إلى المعلومات الحساسة واختراق الأنظمة والبنية التحتية للأعداء، ويكون لمن يسيطرون على تقنيات متقدمة ميزة في تنفيذ هجمات سيبرانية بنجاح وجمع المعلومات الاستخباراتية الحيوية.
تأخذ الصراعات السيبرانية اليوم طابعًا تنافسيًا حول امتلاك التقدم التكنولوجي والسيطرة على الإنترنت، يتم ذلك من خلال سعي الفواعل إلى السيطرة على مجالات نطاقات شبكة الإنترنت وتدفق المعلومات والقيام بعمليات اختراق تكنولوجية من دون الحاجة إلى استخدام الأساليب التقليدية، مثل الهجمات الجوية أو الاعتداءات الحدودية.
وباتت هذه الصراعات تمثِّل نمطًا جديدًا من الصراعات التي تتسم بعدم إسنادها، وانخفاض الحواجز أمام الدخول فيها، وعدم تكافؤ القوى المتصارعة، والتصعيد السريع، والطبيعة العابرة للحدود، والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، والشكوك القانونية والمعيارية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية، والتهديد الدائم. وبينما تتصارع الدول والفواعل من غير الدول مع هذه الميزات الفريدة، تصبح الحاجة إلى دبلوماسية فعالة وتعاون وتدابير للأمن السيبراني على الساحة الدولية أمرًا حيويًا على نحو متزايد للحفاظ على الاستقرار والأمن العالميين لا سيما في ظل تصاعد التوترات السياسية بين روسيا والغرب والصين والولايات المتحدة مما يعزز احتمالية استخدام التكنولوجيا السيبرانية كأداة في الصراعات الجيوسياسية.
خلاصة القول؛ إن حدة الصراعات السيبرانية تتزايد عالميًا مع تطور التكنولوجيا، وتوسع نطاق الاستخدامات السيبرانية في مختلف المجالات. وبالنظر إلى تعقيدات هذه الصراعات، وعدم وجود إطار دولي لتنظيم سلوكها، يبدو أن استمرار التصعيد في هذا الجانب سيظل أمرًا واردًا في الفترة المقبلة. وعليه؛ لابد من تبنى الدول استراتيجيات متقدمة على هذا الصعيد، وتكثف التعاون الدولي لمواجهة التهديدات المتزايدة عبر الفهم العميق لطبيعة هذه الصراعات والتكيف مع تحدياتها. لأن عدم معالجة هذا التحدي يمكن أن يؤدي إلى تصعيد الصراعات الجيوسياسية وزيادة التوترات الدولية، مما يهدد الاستقرار العالمي ويعرض الأمن العالمي للخطر.