مما لا شك فيه أن التنافس الدولي في مجال الفضاء السيبراني أصبح أمراً في غاية الأهمية في العصر الحديث، حيث يشهد العالم تزايداً ملحوظاً في استخدام التكنولوجيا الرقمية والإنترنت بمختلف جوانب الحياة، بما في ذلك السياسة والاقتصاد والأمن والدفاع والقطاعات الحياتية الأخرى.
تختبر الدول الصاعدة في الفضاء السيبراني تحولًا ملحوظًا، إذ باتت تتجه نحو تطوير وتعزيز قدراتها السيبرانية بهدف المنافسة على الساحة الدولية وتحقيق الاستقلالية التقنية. ويعتبر هذا التطور تحدياً وفرصة في آن واحد للدول الراغبة في تعزيز تأثيرها وأمانها في هذا الفضاء.
هذا ورغم هيمنة القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا كلاعبين عالميين عند ممارسة القوة السيبرانية في الفضاء الإلكتروني فقد وفرّ الأخير فرصاً جديدة لدول مثل الهند وكوريا الشمالية وإيران وإستونيا والبرازيل وفنزويلا وغيرها من الدول التي تفتقر إلى القدرات التقليدية في هذا الصدد للتأثير في العلاقات الدولية والسياسات العالمية، والسعي بقوة لتحقيق مصالحها وأدركت واستغلت إمكانات القدرات الإلكترونية في مرحلة مبكرة لتصبح بمثابة قوى صاعدة بهذا المجال.
تاريخيًّا، ارتبطت القدرات السيبرانية بالدول الكبيرة التكنولوجية والاقتصاديَّة. ولكن في العقود الأخيرة، شهدنا ظهور قوى صاعدة تمتلك قدرات سيبرانية منافسة. تعزز هذه القوى تصاعديًا في مجالات متعددة، بدءًا من التجسس السيبراني ووصولًا إلى التكنولوجيا الحيوية.
فمثلا، تسعى الهند لتطوير قدرات سيبرانية متقدمة بهدف تحسين الأمن السيبراني وتعزيز قدراتها التكنولوجية. وتُعَدّ الهند لاعباً مهماً في قطاع التكنولوجيا، وهناك إيران التي بالرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها إلا أنها نجحت في تطوير قدرات سيبرانية تستخدمها للدفاع والهجوم، واعتمدت كوريا الشمالية على الهجمات السيبرانية كجزء من استراتيجيتها العسكرية، حيث استهدفت العديد من الدول بعمليات قرصنة تستهدف السرقة والتجسس.
هذه الدول وغيرها تظهر قدرات سيبرانية متنوعة في دول صاعدة أخرى، تمثّل هذه التطورات تحديًا للقوى التقليدية، فهي تقدم منصة جديدة للتنافسية وتوسيع رقعة التأثير على الساحة الدولية، لننظر مثلا إلى فنزويلا التي أصبحت رقما مهما في رحى الصراع السيبراني، هذه الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية والتي عانت وما زالت من أزمات إنسانية عديدة من نقص الغذاء والتضخم المفرط والفقر المدقع، ولديها أسوأ نمو اقتصادي في العالم، وأسوأ عملة محلية، وأسوأ معدل تضخم، وأسوأ نسبة بطالة، بالإضافة إلى معاناتها من نقص حاد في السيولة والأدوية وغيرها، وعدم قدرة البلاد على إطعام شعبها أو توفير إمدادات الكهرباء والمياه، فقد أضحت لاعبا جادا في مجال الفضاء السيبراني من حيث قدراتها السيبرانية باتباعها استراتيجية منذ عدة سنوات – وهي استراتيجية يصفها المحللون الدوليون- بأنها قوية للغاية.
دولة أخرى مثل إستونيا تعتبرُ اليوم مرجعا مهما ولربما الأهم عندما يتعلق الأمر بالأمان على شبكة الإنترنت، كما أن عاصمتها تعتبرُ موطنا لمركز الدفاع الإلكتروني لحلف الناتو.
إن مصادر القوة التقليدية، مثل القوة العسكرية والاقتصادية أو ” الغنى والفقر”، لم تعد شرطاً أساسياً للنجاح في الفضاء السيبراني، فالدول السابقة الذكر تحتاج إلى موارد قليلة لبناء قدراتها الإلكترونية واستغلالها لإبراز نفوذها، لكن تبقى هذه الدول مستخدمة للقدرات السيبرانية وليست منتجة لها وبالتالي تواجه تحديات مشتركة ومتنوعة في مجال الفضاء السيبراني، بما في ذلك تطوير تكنولوجيا قوية وآمنة، وتأمين البنية التحتية الحيوية، وتطوير استراتيجيات ردع فعالة للحد من التهديدات السيبرانية. فالتنافس الدولي في هذا المجال يعلي من شأن وأهمية التعاون الدولي الفعّال لتعزيز الأمان والاستقرار السيبراني على مستوى العالم.