من الأمور المستقرة في العلاقات الدولية أن مصادر قوة الدولة وأشكالها تتغير، فإلى جانب القوة الصلبة ممثلة في القوة العسكرية والاقتصادية، تزايد الاهتمام بالأبعاد غير المادية للقوة، فبرزت القوة الناعمة التي تعتمد على جاذبية النموذج والإقناع، ومع ثورة المعلومات ظهر شكل جديد من أشكال القوة هي القوة السيبرانية التي بات لها تأثير كبير على المستوي الدولي والمحلي، وظهر مفهوم “الوزن السيبراني” الذي يقوم على وجود نظام متماسك يعزز القوة من خلال التفاعل الجيد بين القدرات السيبرانية والتكنولوجية والسكانية والاقتصادية والصناعية والعسكرية وإدارات الدولة وعوامل أخرى. هذا التوازن المتناغم يسهم في تعزيز قدرات الدولة في تنفيذ ممارسات الإكراه والإقناع، وكذلك تنفيذ استراتيجيات التأثير السياسي في سياق العلاقات الدولية.
فالوزن السيبراني هو مفهوم يرتبط بقدرة الدولة في الحفاظ على سيادتها وأمنها في الفضاء السيبراني، وبالقدرة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية للدولة على التعامل مع التهديدات السيبرانية والدفاع عن مصالحها وأمانها في العالم الرقمي.
تعتبر القوة السيبرانية جزءًا مهمًا من قوة الدولة في العصر الحديث، حيث يعتمد الاقتصاد والتواصل والدفاع الوطني بشكل كبير على الشبكة العالمية وتقنيات المعلومات والاتصالات. فالدول التي تمتلك تقنيات متقدمة في مجال السيبرانيات وتستثمر في قدرات الدفاع السيبراني تكون أكثر قدرة على حماية نفسها من الهجمات السيبرانية والمحافظة على سيادتها في الفضاء الرقمي.
بالإضافة إلى ذلك، يشمل الوزن السيبراني أيضًا قدرة الدولة على استخدام الأسلحة السيبرانية في الصراعات والحروب السيبرانية، وهذا يمكن أن يكون له تأثير كبير على التوازنات الدولية والعلاقات الدولية بشكل عام.
لقد أعطى هذا الأمر دافعاً رئيسياً للدول في اتجاهين، الأول: تدعيم القوة الناعمة ؛ حيث بات الفضاء السيبراني مسرحاً لنشر المعلومات المضللة، والحرب النفسية، والتأثير في توجهات الرأي العام، والنشاط السري والاستخباراتي، أما الاتجاه الآخر: فيتعلق بتبني الدول لزيادة الإنفاق في سياسة الدفاع السيبراني، وحماية البنى والشبكات الوطنية من خطر التهديد، وبناء مؤسسات وطنية للحماية الإلكترونية.
إن المعيار التاريخي الأول للقوة كما معروف هو المقياس العسكري الذي ساد سابقا، لكن اليوم ضعف تأثير هذا المقياس على أهميته، بعد أن تبيّن أن القطاع العسكري قد يستنزف طاقات الدولة على حساب قطاعات أخرى مهمة وضرورة لبقائها. وللإشارة هنا، فإنّ ثمة العديد من العلماء وفقهاء السياسة والمفكرين الاستراتيجين قاموا على مدار العقود الماضية بإصدار دراسات عديدة تتناول أساليب قياس العناصر التي تدخل في حساب قوة الدولة بمكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والجغرافية والسكانية، إضافة إلى تحليلها، وكذا تحديد الأوزان النسبية لعناصرها الفرعية. لكن شاب هذه الدراسات الكثير من الاختلافات والتباينات؛ إذ ما زالت هناك نقاط تثير جدلا حول أساليب القياس ومؤشراتها وتعددت مناهجها وأساليبها بهدف التوصل لرؤية جديدة تتماشى مع المتغيرات التي فرضت نفسها، على موضوع “قوة الدولة” كواحد من أبرز الاهتمامات الأساسية في الدراسات الجيوستراتيجية المعاصرة، ليس فقط بالمعنى الضيق للقوة العسكرية وحدها، ولكن أساساً بالمعنى الحضاري الأشمل، باعتبار قوة الدولة المحصلة الأخيرة لمجموع (مواردها الطبيعية وقدراتها الاقتصادية وبنيتها الثقافية والاجتماعية ونظمها السياسية والإدارية وعلاقاتها الدولية وفعاليتها العسكرية ومساحتها الجغرافية …الخ ) فهذه النتيجة ليست مجرد مجموع العناصر في حد ذاتها، بل وأيضا فيما ينشأ بين تفصيلاتها من علاقات، وما يتداعى عن تفاعلاتها داخل الدولة الواحدة وبينها وبين الفواعل الأخرى من نتائج واحتمالات.
هذا الحديث ليس موضع تشكيك أو تقليل من شأن وقيمة عناصر القوة التقليدية، لكننا نشهد اليوم دخول قوة تأثير الفضاء السيبراني، والقدرة على الابتكارات العلمية التي أصبحت عناصر رئيسية في تحديد أوزان ونفوذ الدول، وحجم مكانتها بين الأمم، وهذا ما يتفق عليه الكثير من دارسي العلاقات الدولية على أن عناصر قوة الدولة التقليدية على أهميتها لم تعد حاسمة في تعريف مفاهيم القوة بعد المُعطيات الجديدة التي فرضها العصر الرقمي، والتي وضعت بصمات دامغة على موازين القوى الدولية، إضافة إلى إحداثها تعديلات على بعض مؤشرات قياسها.
بناء على هذا الأساس، فقد وضعت دراسات عديدة معايير في ترتيب قوة الدول بالنظر إلى “الوزن السيبراني” من حيث أعداد مستخدمي الهواتف الذكية والإنترنت، وشبكات تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات بالمقارنة مع إجمالي عدد السكان، وكذلك الاختراعات السنوية ودرجة التنافسية الرقمية التي تقيس مدى الاستعداد لتطوير تكنولوجيات جديدة، والقدرة على استغلال الابتكارات الجديدة والبناء عليها. هذا بالإضافة إلى ظهور نماذج قياس في الآونة الأخيرة تقيّم القدرات السيبرانية للدولة القومية والقوة الوطنية وتصنفها وفق مؤشرات الاستراتيجية والعقيدة مثل الحكم والقيادة والسيطرة؛ القدرة الأساسية للاستخبارات السيبرانية ؛ التمكين والاعتماد على الإنترنت؛ الأمن الإلكتروني؛ الريادة العالمية في الفضاء السيبرانية، وقدرة الهجمات الإلكترونية .
وعليه، بما أن العالم يتجه نحو التفاعل المتزايد عبر الإنترنت والتكنولوجيا، يصبح “الوزن السيبراني” عنصراً رئيسياً في العلاقات الدولية وأمرًا لا غنى عنه في تحقيق والحفاظ على القوة الوطنية والتنافسية في الساحة العالمية.